أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَجَاهَدَ فِي سَبِيل اللَّه لَا يَسْتَوُونَ عِنْد اللَّه وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ } وَهَذَا تَوْبِيخ مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره لِقَوْمٍ اِفْتَخَرُوا بِالسِّقَايَةِ وَسَدَانَة الْبَيْت , فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْفَخْر فِي الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَالْجِهَاد فِي سَبِيله لَا فِي الَّذِي اِفْتَخَرُوا بِهِ مِنْ السَّدَانَة وَالسِّقَايَة. وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْآثَار وَتَأْوِيل أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 12860 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد الدِّمَشْقِيّ أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَن , قَالَ : ثنا الْوَلِيد بْن مُسْلِم , قَالَ : ثني مُعَاوِيَة بْن سَلَّام , عَنْ جَدّه أَبِي سَلَام الْأَسْوَد , عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير الْأَنْصَارِيّ , قَالَ : كُنْت عِنْد مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَر مِنْ أَصْحَابه , فَقَالَ رَجُل مِنْهُمْ : مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَل عَمَلًا بَعْد الْإِسْلَام , إِلَّا أَنْ أَسْقِي الْحَاجّ ! وَقَالَ آخَر : بَلْ عِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام ! وَقَالَ آخَر : بَلْ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه خَيْر مِمَّا قُلْتُمْ ! فَزَجَرَهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَقَالَ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ عِنْد مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ يَوْم الْجُمْعَة - وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْت الْجُمْعَة دَخَلْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاسْتَفْتَيْته فِيمَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ ! قَالَ : فَفَعَلَ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ } إِلَى قَوْله : { وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ } 12861 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : ثني مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَوْله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر } قَالَ الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب حِين أُسِرَ يَوْم بَدْر : لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَة وَالْجِهَاد , لَقَدْ كُنَّا نَعْمُر الْمَسْجِد الْحَرَام , وَنَسْقِي الْحَاجّ , وَنَفُكّ الْعَانِي ! قَالَ اللَّه : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ } إِلَى قَوْله : { الظَّالِمِينَ } يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشِّرْك , وَلَا أَقْبَل مَا كَانَ فِي الشِّرْك . 12862 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : ثني أَبِي , قَالَ : ثني عَمِّي , قَالَ : ثني أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ اِبْن عَبَّاس قَوْله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ } إِلَى قَوْله : { الظَّالِمِينَ } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : عِمَارَة بَيْت اللَّه وَقِيَام عَلَى السِّقَايَة خَيْر مِمَّنْ آمَنَ وَجَاهَدَ ! وَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِالْحَرَمِ وَيَسْتَكْبِرُونَ بِهِ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ أَهْله وَعُمَّاره . فَذَكَرَ اللَّه اِسْتِكْبَارهمْ وَإِعْرَاضهمْ , فَقَالَ لِأَهْلِ الْحَرَم مِنْ الْمُشْرِكِينَ : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ تَنْكُصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْتَكْبِرُونَ بِالْحَرَمِ , وَقَالَ : " بِهِ سَامِرًا " لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمُرُونَ وَيَهْجُرُونَ الْقُرْآن وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَيْر الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْجِهَاد مَعَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمْرَان الْمُشْرِكِينَ الْبَيْت وَقِيَامهمْ عَلَى السِّقَايَة . وَلَمْ يَكُنْ يَنْفَعهُمْ عِنْد اللَّه مَعَ الشِّرْك بِهِ أَنْ كَانُوا يَعْمُرُونَ بَيْته وَيَخْدُمُونَهُ , قَالَ اللَّه : { لَا يَسْتَوُونَ عِنْد اللَّه وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ } يَعْنِي : الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْل الْعِمَارَة , فَسَمَّاهُمْ اللَّه " ظَالِمِينَ " بِشِرْكِهِمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ الْعِمَارَة شَيْئًا. * - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير , عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير , أَنَّ رَجُلًا قَالَ : مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَل عَمَلًا بَعْد الْإِسْلَام إِلَّا أَنْ أَسْقِي الْحَاجّ ! وَقَالَ آخَر : مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَل عَمَلًا بَعْد الْإِسْلَام إِلَّا أَنْ أَعْمُر الْمَسْجِد الْحَرَام ! وَقَالَ آخَر : الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه أَفْضَل مِمَّا قُلْتُمْ . فَزَجَرَهُمْ عُمَر وَقَالَ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ عِنْد مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ يَوْم الْجُمْعَة - وَلَكِنْ إِذَا صَلَّى الْجُمْعَة دَخَلْنَا عَلَيْهِ . فَنَزَلَتْ : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام } إِلَى قَوْله : { لَا يَسْتَوُونَ عِنْد اللَّه } 12863 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ عَمْرو , عَنْ الْحَسَن , قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَلِيّ وَعَبَّاس وَعُثْمَان وَشَيْبَة , تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ ; فَقَالَ الْعَبَّاس : مَا أَرَانِي إِلَّا تَارِك سِقَايَتنَا ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَقِيمُوا عَلَى سِقَايَتكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا " . 12864 - قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن عُيَيْنَة , عَنْ إِسْمَاعِيل , عَنْ الشَّعْبِيّ . قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَلِيّ وَالْعَبَّاس , تَكَلَّمَا فِي ذَلِكَ . 12865 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : أُخْبِرْت عَنْ أَبِي صَخْر , قَالَ : سَمِعْت مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ يَقُول : اِفْتَخَرَ طَلْحَة بْن شَيْبَة مِنْ بَنِي عَبْد الدَّار , وَعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب , وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب . فَقَالَ طَلْحَة : أَنَا صَاحِب الْبَيْت مَعِي مِفْتَاحه , لَوْ أَشَاء بِتّ فِيهِ ! وَقَالَ عَبَّاس : أَنَا صَاحِب السِّقَايَة وَالْقَائِم عَلَيْهَا , وَلَوْ أَشَاء بِتّ فِي الْمَسْجِد ! وَقَالَ عَلِيّ : مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ , لَقَدْ صَلَّيْت إِلَى الْقِبْلَة سِتَّة أَشْهُر قَبْل النَّاس , وَأَنَا صَاحِب الْجِهَاد ! فَأَنْزَلَ اللَّه : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام } الْآيَة كُلّهَا . * - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن ثَوْر , عَنْ مَعْمَر , عَنْ الْحَسَن , قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ } قَالَ الْعَبَّاس : مَا أَرَانِي إِلَّا تَارِك سِقَايَتنَا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَقِيمُوا عَلَى سِقَايَتكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا " . 12866 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا أَحْمَد بْن الْمُفَضَّل , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَجَاهَدَ فِي سَبِيل اللَّه لَا يَسْتَوُونَ عِنْد اللَّه } قَالَ : اِفْتَخَرَ عَلِيّ وَعَبَّاس وَشَيْبَة بْن عُثْمَان , فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ : أَنَا أَفْضَلكُمْ , أَنَا أَسْقِي حُجَّاج بَيْت اللَّه ! وَقَالَ شَيْبَة : أَنَا أَعْمُر مَسْجِد اللَّه ! وَقَالَ عَلِيّ : أَنَا هَاجَرْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُجَاهِد مَعَهُ فِي سَبِيل اللَّه ! فَأَنْزَلَ اللَّه : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيل اللَّه } إِلَى : { نَعِيم مُقِيم } 12867 - حُدِّثْت عَنْ الْحُسَيْن بْن الْفَرَج , قَالَ . سَمِعْت أَبَا مُعَاذ , قَالَ : ثنا عُبَيْد بْن سُلَيْمَان , قَالَ : سَمِعْت الضَّحَّاك يَقُول فِي قَوْله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ } الْآيَة , أَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَبَّاس وَأَصْحَابه الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْم بَدْر يُعَيِّرُونَهُمْ بِالشِّرْكِ , فَقَالَ الْعَبَّاس : أَمَا وَاَللَّه لَقَدْ كُنَّا نَعْمُر الْمَسْجِد الْحَرَام , وَنَفُكّ الْعَانِي , وَنَحْجُب الْبَيْت , وَنَسْقِي الْحَاجّ ! فَأَنْزَلَ اللَّه : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ } الْآيَة. فَتَأْوِيل الْكَلَام إِذَنْ : أَجَعَلْتُمْ أَيّهَا الْقَوْم سِقَايَة الْحَاجّ , وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَجَاهَدَ فِي سَبِيل اللَّه , لَا يَسْتَوُونَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ , وَلَا تَعْتَدِل أَحْوَالهمَا عِنْد اللَّه وَمَنَازِلهمَا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَقْبَل بِغَيْرِ الْإِيمَان بِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر عَمَلًا . { وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ } يَقُول : وَاَللَّه لَا يُوَفِّق لِصَالِحِ الْأَعْمَال مَنْ كَانَ بِهِ كَافِرًا وَلِتَوْحِيدِهِ جَاحِدًا . وَوَضَعَ الِاسْم مَوْضِع الْمَصْدَر فِي قَوْله : { كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ } إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : لَعَمْرك مَا الْفِتْيَان أَنْ تَنْبُت اللِّحَى وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَان كُلّ فَتًى نَدِيّ فَجَعَلَ خَبَر الْفِتْيَان " أَنْ " , وَهُوَ كَمَا يُقَال : إِنَّمَا السَّخَاء حَاتِم وَالشِّعْر زُهَيْر .