تتّكئ قدّيشة
على أعلى تلّة شرق الحضنة مقابلة بذلك السّبخة التي امتدّت على طول طرفها
الجنوبي، في حين شطَر طرفها الشرقي وادي النفيضة الذي يشبه في التواءاته
طريق ثعبان ضخم ينْزل كل مساء من خلف مقام قديشة ويستقر في قلب السبخة،
وتحت تلة المقام، انبسط فيض المهر الذي يصب في وادي النفيضة واختفت من على
جنباته آثار الحياة، أما السّواقي التي كانت تربط بين الفيض و حقول القمح
والشعير فقد استوت مع بقايا الحقول، طرفها الغربي كان أخدودا ينبسط
بالقرب من قديشة في مستوى فيض المهر و يبدأ في النزول لمستوى عمق وادي
النفيضة حيث تشكَّل هذا الأخدود واسمه "وادي لمخرق" من الأمطار الغزيرة
التي تجتمع تحت قديشة وتبدأ في الغليان في شكل فيض سرعان ما يسحبه
الانخفاض المؤدي إلى السبخة فيصبح واديا لا يختلف كثيرا عن النفيضة.
كل شيء يدل على الماء،إلا الماء لم يعد يدل على نفسه، تدل عليه الحجارة
الملساء متوسّطة الحجم التي تملأ سهولها، وعادة ما تسمى أرض قديشة بالحمادة
أو الحرشة نظرا لخشونتها وصعوبة حرثها، ورغم كل هذا لم تكن هذه الخشونة
لتمنع أهل المنطقة من حرثها و التمكّن من خيراتها بفضل الله عز وجل.
غيرَ أنّ خيرات الأرض لم تكن تكفي سكان أولاد الخضرة كي يتقوتوا منها،
فكثرة الغنم والإبل المنتشرة في كل مكان والتي تعدّ التّجارة المهمّة
بالنسبة لهم كانت وراء كثرة المطامير المنتشرة في كل مكان، والمطمور هو
خندق يبلغ طوله عادة ثلاثة أمتار وعرضه مترين وارتفاعه مترا ونصف المتر،
يخبّئ فيه الموّالون مخزونَ القمح والشَّعير لفصل الشّتاء وهْي فكرة
مستلهمة من طريقة عيش النمل، ومع هذا كان أولاد الخضرة يعتمدون على الحل و
الترحال إلى التلّ خلفَ جبال الأطلس التلي في فصل الصيف بعد الحصاد وبعد
أن يودعوا الأرض مخازين القمح والشّعير ليعودوا إليها مع بداية الخريف وقت
الحرث، حيث يشتغل فيه السكان على تهيئة الأرض للمطر عن طريق سواقي تحفظ
كميّات الماء الهائلة من العبور إلى السّبخة، وقد يحدث أن يتواصل نزول
المطر لأيام متتالية في هذه الحالة يتحول الناس من حفر المجاري التي تسقي
الحقول إلى حفر مجاري تبعد الماء الذي يفيض حول جنبات الفيض عن الخيام
المنصوبة هنا وهناك.
ما إن انتبه الشاوش إلى أنَّ ظلَّه أصبح نقطة تحت
قدميه حتى أدرك أنّه لم يعد يفصله عن آذان الظهر إلا دقائق وقد لا تكون
كافية ليصل إلى المسجد إذا واصل السير بهذا البطء:
ــ الله يلعنك يا إبليس..!
وخفّف
سرعة قدميه قليلا بعد أن جمع برنسه الأصفر العتيق خلف ظهره وهو يحني ظهره
قليلا حتى يستطيع جسده المعتدل مقاومة التلّة الخفيفة التي سيطّل من
خلالها على خيمته التي نصبها جنب منزله الطيني، تمنى لو أن الأرض تصبح
انبساطا واحدا وانطلاقا دائما.
لا تختلف نتوءات قديشة والتواءاتها
كثيرا عن أنفاسه حين يكون متجها إلى فيض المهر في الجهة الشمالية، حيث
تكثر المنحدرات والمرتفعات على العكس تماما من الجهة الجنوبية من منزله
الطيني، من هذه الجهة يمكنه أن يرسل عينيه بعيدا حيث ألق السبخة والانبساط
التام.
تمنّى وهو يترك للمنحدر أمر تسيير خطواته لو أنّ قديشة وفيض
المهر كانا من هذه الجهة حتى تستقرّ أنْفاسه المشتّتة هذه الأيام، لكنه
وما إن استقر به المنحدر عند الزريبة، حتى رمى بأمنيته هذه داخلها وقال في
سرّه وهو يغلق عليها باب الزريبة الذي تركه الفتى الراعي يوسف مفتوحا:
ـ "لو كان فيض المهر من جهة السبخة ما كنا في حاجة إليه".
نادى على زوجته العارم:
ـ "هات الماء لأتوضأ، لقد اقترب وقت الصلاة"
ردت العارم وهي تخرج بحجرة التيمم مستغربة طلبه:
ـ " الماء..!؟ لم يبق لنا من الماء إلا ما نشربه.."سلّمته حجرة التيمم وهي تجلس إليه في رفق و مودة بعد أن أسندت ظهرها لوتد الخيمة:
ـ "أين تغديت اليوم يا سيدي؟".
ـ "وأين تريديني أن أتغدى؟ أكلت الحر والصمت".
قامت العارم لتقدم لزوجها كسرة الشعير واللبن في حين كان قد أنهى وضوءه:
ـ "أستغفر الله، اللّهم اجعلني من التوابين ومن المتطهرين." ثم ردّ عن يديْها كسرة الشعير:
ـ "أشرب اللّبن وحده..كسرة الشعير هذه تزيد من حدة العطش.."
سألها وهو يقوم من مكانه متّجها إلى صنْدوقه الخشبيّ الصّغير يفتحه ويخرج منه علْبة المسك ويمسح عليها يديه ووجهه:
ـ "أيْن الهذبة؟"
ـ "رافقت الراعي يوسف".
وهو يغلق قارورة المسك التفت بعنف لطيف:
ـ "ماذا..رافقت يوسف؟ ألم أقل أنّه يجب أن نفصلهما، ما بك يا امرأة؟"
ـ "يا سيدي البنت ما زالت صغيرة و يوسف خلّوق وهو في منزلة أخيها".
مرّ على بال الشاوش وجه ابنه المرحوم فأطرق رأسه و همّ بالخروج من الخيمة وجاءه تعليق العارم هادئا:
ـ "ماذا تريدني أن أفعل؟ أترك الهذبة تذهب وحدها لواد المخرق تسقي!؟"
ـ "من اليوم فصاعدا لن تخرج من المنزل..إشربي اللبن.." والتهمه باب الخيمة
يلقي به للظهيرة التي طرقت أجفان العارم فاستسلمت لقيلولة خفيفة ألقت بها
في ربع خال من السكون الواسع. بينما أخرجَ الشّاوش معه من الخيمة ذكرى
ولده الذي مات مع آخر قطرة ماء نزلت في هذه الأرض،كان ذلك قبل
عامين..عامان لم ينزل فيهما المطر ولم يعد فيهما محمد لأبيه، لكن ثيابه
المشرقة بالدم تدل حياته الأخرى عند الخالق..
"يا الله !!".
تعالى
صوت المؤذن فجمع الشاوش أنفاسه وركزها جيدا ليلقي بها على شفتيه جملا
تصاحب الآذان "الله أكبر،الله أكبر،أشهد ألا إله إلا الله،أشهد ألا إله
إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله،لا حول ولا
قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله،الله
أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله..اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة
القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته.. إنك
لا تخلف الميعاد"
عند مدخل المسجد حيث تنكس الرؤوس يرفع الشاوش رأسه
ليس لأنه شاوشا، لكنه يريد أن يقرأ أحوال أولاد الخضرة من خلال أعينهم
التي لا تجيد الكذب والخداع بقدر ما تحسن إفشاء السرائر..ووحده الشاوش
استطاع أن يبتسم ويحول مجرى الدمع في عينيه من الحزن على فقد ابنه إلى فرح
باستشهاده، حتى صديقه الصالح بن العلمي لم يستطع أن يمنحه ثياب ابنه
المشرقة بالدم إلا بعد أن سأل العائدين من فرنسا بالخيبة عن علامة انتصار
ابنه، في تلك اللحظة اشتمّ الشّاوش ثياب محمد و ألقى بها إلى العارم التي
بكت مثلما تبكي امرأة على ابن زوجها.. قال لها بعد أن لم يشبع من رائحته:
ـ "خبئي هذه الثياب في خزانة المرحومة..".
واستلّ حزنُه على ابنه حزنَه على أمّ ابنِه التّي لدغتها أفعى وهي ترضع محمد..
أحميدة القصاب وحده من أعاد مجرى الدمع في عيني الشاوش من فرح
بالاستشهاد إلى حزن على الفقد، وكشف سرّ خليفة بعد أن ألقى غشاوة اللحن
على عينيه بعد يومين من الخبر ..، سأله حينها:
ـ "يا صديقي الشاوش، هل ما زلت تحب باية؟".
ولم يكن احميدة القصاب ينتظر الرد لأنّه اكتفى بصمت الشاوش:
ـ "صمت الشاوش علامة الإيجاب."
ـ "أسكت يا احميدة، تعرف أني كنت أحب باية الله يرحمها، لكن..!"
بعدها اختَفَي الشَّاوش في شاشيَّة البرنوس، ولعلَّ احميدة القصَّاب كان
يدرك أن الشَّاوش أخرجَ من تحت معطفه قطعة من القماش الذي كانت ترتديه باية
حين لَدَغَتْهَا الأفْعَى.. قَبْلَ أنْ تَمُوت، حينها ــ وما أكثر مثل
تلك الأحايين في ممرات عمر الشاوش ــ بدا كأنّه جزء صغير من غيمة ضائعة
سقطت قرب احميدة القصاب الذي لم يكن في حاجة إلى المطر بقدر ما كان يريد
أن يستغرق أكثر في تأمّل البرنس الذي يحمي ملامح الشاوش من عطفه وشفقته.
بعد دقائق قام الشَّاوش واستوَى في وقفة حائرة غريبة لم يتعرف إليها جسده.
لعلّه كان يقاوم برعشة يديه حرارة البال الواثق من صفاءه، ويحنّ إلى
الفوضى التي لا يفتقد اليها الناس.. الناس لا يقاومون إلا الصفاء..
ــ " أحميدة..!"
ــ نعم يا صديقي..
أرسل نفسا طويلا يتوسط الآهة والزفير:
ــ حسبي الله..!
حين يقيم سي المبروك الصلاة بعد أن أذَّن لها يتناول سي المبارك مخلوف
الإمَامَة ويلقِي بمَنْ خَلفَه فِي حقول الذكر.. وعند مخرج المسجد يلتقي
الأعيان للاطمئنان على صحة بعضهم البعض ويفضل الصالح بن العلمي الاختلاط
بالفتية والصغار يمنحهم ابتسامة رائقة تجعلهم يستعيدون الإحساس بالوجود.
لكنه هذه المرة أسرع إلى حلقة الأعيان الذين هيئوا له مكانا يصلح لوقفة
الشاوش ولم يخرج حديثهم عن موضوع الحين.. المطر والجفاف، كان الشاوش يسمع
ولا يمكنه أن يرد أو يفعل شيئا، المطر من اختصاص الله عز وجل وليس في
وسعهم إلا الدعاء، وقع سمع سي المبارك وهو يلتحق بالحلقة على تعليق سليمان
النصلة وهو يقول:
ــ "الصبر يا سليمان.. الصبر."
ــ "ما فتح الله بابا من البلاء إلا فتح بابا من الدعاء".. أكثروا من الدعاء يا إخوتي.
قال سي المبارك وهو يصافح المجموعة وتنتهي يده في يد الشاوش الذي ردّ :
ــ "أنتم مدعوون عندي الليلة ، هناك أمر هام يجب أن أستشيركم فيه..!".
وانسحب من الحلقة تاركا نسمة هادئة من الحيرة، ومن فتحة الحلقة التي انسحب
منها تبعته حرارة الحلم الذي رآه البارحة ورافقه ظلّ النّاقة البيضاء
التي تشبه لون السّحاب الذي لا يمطر.
عندما وصل منزلَه الطينيّ جلسَ
عكس الصيف، واجهَ الشّمس وهيَ تنزلُ جهة المرعى البعيد حيث الفتى يوسف
والهذبة واختفى في شاشيّة البرنوس وقد منح دموعه متعة الإختفاء تحت هالة
العرق.
ولعلّه نامَ قَليلا..
نسمة برد خفيفة تسند ظهر الشاوش لحائط الطين وتجعله يقابل كهولة اليوم
التي تسبق فتوّة الليل وهو يمنح وجهه للشمس التي بدأت تتعب. كالعادة ما
زال يندسّ في برنسه ينتظر الراعي. لم تمض إلا دقائق حتى احمرّت الشمس
وابيضّت الربوة بالغنم..
بدت الهذبة جنب الفتى يوسف امرأة صغيرة،
أثارت غيرة الأب على أنوثتها التي يجب أن تفيض بعيدا على أيّ تأثير
رجولي، تهيّأ للشّاوش أن طريقة سيرهما هذا المساء مختلفة نوعا ما، فلا
يبدو عليهما أيّ أثر للتّعب من الدّلاء الممتلئة بالماء والتي يحملانها عن
طريق خشبة طويلة وصلبة صنعها الشّاوش خصّيصا لهذا الغرض.
لمح عودا
أصفر عند رجله اليسرى فابتسم وهو يتناوله بيده اليمنى، كانت الأرض أسفل
قدميه مغرية للرّسم والتشكيل، لذا انخرطت يداه ترسمانه عليها، استلطف
اللعبة وهي تستأثر بكل اهتمامه غير أنّ في باله صحراءَ من الهوس.. هوس
أصفر رملي لا يستقر على حال يهدأ تارة فيعوي الذئب الذي في البال ويثور
تارة فتعوي الصحراء.. الصحراء التي تلامس الحضنة والحضنة التي تلامس التل
وهي بينهما لا صحراء ولا تل..الحضنة ليست إلا منطقة خارج التصنيف يطلق
عليها الصحراويون " التل" ويطلق عليها التليون "الصحراء". ورغم أن ملامحه
تتوسّط الحمرة والقلق.. إلا أنّ خليفة بن الطرشة يحس بالانتماء للصحراء.
فالصّحراء تأتي أسفل الحضنة حيث يسهل التنقل إليها عكس التلّ الذي يأتي خلف
جبال الأطلس التلي مما يجعل الترحال إليه صعبا. ثم أنّ أهل الحضنة لم
يفكروا في الذهاب إلى الصحراء بقدر ما تعودوا قضاء الصيف في التلّ.
من
هنا يأتي إحساس الشاوش بانتماءه للصحراء. و السبب الأكبر لإحساسه هذا هو
أن الصحراء تسكن أنفاس أنفاسه. وفي جزء كبير منها توجد لافتة صغيرة لم
يقرأها..مكتوب عليها :
"هنا تنتهي الحياة".
رمى العود الذي شكل به دوائر وأهرامات و انتفض حين رأى الفتى يوسف الراعي يحط عند جانب الحوش:
ــ "تعالى يا ولد ..!".
كاد الفتى يوسف أن ينسى أمر الشياه. ترك طرفَ العصا الذي تمسك الهذبة
بطرفه الآخر وهرول باتّجاه الشّاوش الذي لم يمهله وقتا حتى يقبل كتفه:
ـ "إتّجه إلى المخرق وأحضر عمك احميدة القصاب، وعد قبل أن تسقط الشمس".
إنطلق الفتى ودخل الشاوش المنزل بعد أن جمع برنسه بين يديه وهو يأمر
الهذبه بكأس شيح مبرد. دخلت زوجته العارم وهي تضع الصوف و المغزل جانبا :
ــ ".. تبدو مضطربا يا سيدي..؟!".
ـ "هيئي الخيمة للضيوف، اليوم سيجتمع عندي أعيان أولاد الخضرة ولعلهم سيبيتون".
ثمّ قال وهي تستلم من يده الفنجان الذي لم يستمتع هذا الصباح بسيجارة البرزيلي
ـ "قد يبيتُ بعضهم".
واستلقى على الحوليّ رجلا على رجل يروي عطشَ البال بماء الحلم!. أو ربّما
كان التلّ الحالم في باله يروي الصحراء العطشى في صدره فتنمو حقول من شوك
الصبار الأخضر وقد يتشكل بعضها أصابعَ غليضةً وسواعدَ طويلةً قابلة
للامتداد، تسير بسرعة الشّهيلي وتدخل خيمته..! يراها في مدخل الخيمة تستعد
لصفعه فينتبه وقد طلبت صحراؤه العطشى من باله التليّ ألا يرويَها إذا
كانت ستنبت صبّارا..كأنّ باله التليّ كان يقول :" وهل ستنبت صحراؤك عشبا
أيها الحالم..؟!". يغير تكتيك اتّكاءه فيجعل خدّه الأيمنَ يتوسّد ذراعه ــ
الأيمن طبعا ــ ويلقي بصره في زاوية الزربية، وبأصابع يده اليسرى يداعب
خيطا ناشزا عنها. كثيرا ما يمنحُه مفاتيحَ التأمّل والشّرود، يفكّر في كلّ
شيءٍ وحين ينتبه لا يعثر على فكرة.. فلا يقطعه حتّى يعثرَ علَى فكرة ما.
المساءُ يخرج من الخيمة كائناتِ القلق ويسمح لبعض الهوس بالدخول، هوسا ..
هوسا.لم يكن أمر دعوة أعيان العرش يتعلق بعودة الصالح بن العلمي من حرب
لالمان دون انتصار ولا برحلة سي المبارك مخلوف إلى قسنطينة ومناظرته للشيخ
عبد الحميد بن باديس، وربما كانت له علاقة أيضا بعام الشر هذا لكن من
بعيد، وسأل في سره "كيف ستكون ردة فعلهم وأنا أجمعهم لأجل حلم قد يكون
عابرا؟! ..صرت درويشا يا الشاوش!" قال في سرّه ولعلّه أسرّ به للخيط
الناشز دون أن يقطعه. وكانت شارة بن الخضرة في زنده الأيمن.
أغمض جفنيه واستسلم لنداء الناقة؛
رأى
أنّ الماءَ قد فاض على ضفّتي فيض المهر وكان أبيض بلون السّحاب الذي لا
يمطر، ولم يكلّف نفسَه عناءَ التساؤل عن مصدره لأنه كان خائفا من أن يصل
إلى خيمته ويغرق زوجته وابنتيه، الخوف الذي أفسد عليه متعة الفرح بالماء
في ذلك الحلم.. في ذروة الخوف تناسى أمر زوجته العارم وابنته الهذبة عندما
سمعَ صراخ امرأة محاط بعويل وزغاريد نسَاء يخبطن أيديَهنّ على الماء..
عندما التفت جهة الصراخ رأى مدّ العين شيخا أبيض يقود ناقة بيضاء.
كان
الشيخ يتقدم أمام الناقة ممسكا بالصريمة، عرف الشّاوش الشيخ ولم يعرفه،
أصبح قريبا جدا.. نظر إلى رجليه فانحسر الماء، وعادت الأرض متشققة وكانت
تطلع خلف الناقة أشجار المشمش الخضراء الباردة. أمسكَ الشّيخ صريمة النّاقة
بكلتي يديه وقدّمه للشّاوش، وقبل أن يستلمه اختفى الشيخ في أشجار المشمش
الخضراء الباردة وجاءه صوته منها :
ــ"هذه ناقتكم.. تعالوا حتى تفرح قديشة!!"
عندما أفاق الشاوش عرف الشيخ، كان شاوش أولاد بيوض، لذا أعدّ العدّة
للرّحيل إلى الدبارة ليلتقي الشّيخ ويأتي بالنّاقة، ثم انتبه إلى أن الشيخ
الشريف الدبري تكلم بصورة الجمع "ناقتكم.. تعالوا.." كان عليه أن يُحدِث
فاصلة في علاقته مع الأعيان، أو لنقل؛ إنّه ليس من السهل أن يتنقل سادة
الخلاء سعيا وراء حلم.. لكنّه سيّد فرسان الخلاء وشاوش العرش وفي يده
اليمنى شارة الجدّ الأول بن الخضرة وما عليهم إلا أن يتبعوه.
سارَ
الفتى في أمواج قديشة الترابيّة ولطالما حدّث نفسَه أنّ بحرًا مَا كانَ
هنا.. وكانَ المَوجُ عاليًا جدّا، وبعدَ ساعة من السّير ودقائقَ من الغروب
كانَ لا بدّ أن يبحثَ عن ذلكَ المرتفع الهادئ الذّي كان آخرَ من يُغيّب
الشمس، ثمّة لا بدّ أن يتحسّس شيئا من النّور.. نورٍ يصل بينَ مرقد الشّمس
ومطلَع اللّحن حتّى يجدَ السّاحر أحميدَة القصّاب؛ واهتدى الفتى أخيرا
لجسد راسخ في التّراب وقصبة تائهة في السّماوات، سمعَ قبلَ أن يصل غناءً
نازلا ولحنا صاعدا، أغمضَ عينيه حتّى يتأكّدَ أنّ أحراشَ قدّيشة أصبحت
زرابيَّ تحت أقدام فتياتٍ خرجنَ للتوّ من عرس النّهر!! مبلّلات لا يسترنَ
عوراتهنَّ.. يستلقين ويسخرن من نجوم تكاد تنطفئ، تتحوّل السّماوات إلى
مرآة لهنّ، إقترب يسأل إحداهن عن شكل حبيبته التّي جرحها عمرها الثالث عشر
فوق ركبتيها وكانَ جواب السّاحر أقربَ إليه من جوابها:
ــ "إنسَ بنت الشاوش يا يوسف!! واخبرني لماذا يبحث عني ؟!".
لا يمكن للفتى أن يجيب عن هذا السّؤال، لأنّه رأى أنّ القصبة استحالت أفعى
بين يديه، إلتحفَها ومضيا في طريق من الظلمة تحفّه حجارة من ضوء ونجوم من
صمت، وبينما كانا يسيران لم يَخَفِ الفتى من الأفعى التي في عنق الساحر!،
وتمنّى لو كانت له واحدة صغيرة مثلها..! لو أنّها زيّنت عنقَه حتّى يفتخر
بها أمام الهذبة.
لكنّ السّاحر ردّ عليه قبل أن يرتدّ صدى أمنيته في عينيه الحالمتين :
ــ "عندما ترضع بزّولة قدّيشة!".
وعلّقَ الفتى بابتسامة حوّلته إلى وادٍ من الرّغبة.. سكنه السرّ وصارَ لا
يُحسّ بخطواته على أرض يمكن أن يرضعَها ويحصلَ منها على أفعى صغيرة يرعى
بها الغنم ويتباهى بها أمام الهذبة؛ بنت سيده الشاوش..الهذبة لا تشبه كلّ
فتيات العرش، يحلو له أن يبتسم كلما يراها ويجعلَ أصابعه اليمنى تدخل في
حوار عميق مع أصابع يده اليسرى، و يرفع أحيانا رجلا إلى ساق ويطأطأَ رأسَه
في حين لها أن تتجاهل اهتمامه وتطلب منه أن يلعبا لعبة الغميضى..!
سألته مرّة وكانا يعبران فيض المهر عن اسم أمّه، فردّ "لا أدري".. وسألته
عن إسم والده أيضا فقال "لا أدري".. حينها استغربت الهذبة الأمرَ، كانت
تُريدُ أن تسألَه عنِ الطّريقة التّي ولدَ بها لأنّها تذكرُ جيّدا حكايا
أمّها عن ألمِ المخاض الذّي فاجأَها في الحوش. كان الشاوش غائبا حينها،
كادت أن تكون النتيجة حياة واحدة من اثنتين؛ لولا عمّتها العجوز زيبودة
التي جاءت تتفقّد أحوالَ إبنة أخيها.. يوسف أيضا يريد أن يعرف.. لا لشيءٍ
إلا من أجل أن يخبرَها.. ويجعلها تبتسم ثم يتسلّل تحت السّدراية ويجمعَ لها
بعضَ النّبق ويقدمه لها.
وحده
السّاحر يعرف ما في بال الفتى، وما زالت الأفعى التي في عنقه تتلوى مع
اللّحن، والفتى يرغب في أفعى صغيرة تشبه التي في عنقه، أحسّ الفتى أن
السّاحر أقرب ما يكون إليه حين يعزف، وهمَا يسيران كان يتأمّل هذا الكهلَ
الذي لا يشبه كهول العرش، جبينه بلا تجاعيد وعيناه الدافئتان أجمل حين
يغمضهما ويعلو صدره حتى يصل عنقه وتنتفخ عروق رقبته ويمتلأ خداه، يشبه
بطيخة أو هكذا هيأ للفتى الذي بدأ في الامتلاء بوجه الهذبة. حينَ تصبحُ
الحياة التواءاتٍ كلّها كالأفعى والطريق والفيض وواد المخرق..، إلتواءات و
نتوءات.. يجب على الساحر أن يعزف حتى تستقيم.
الفتى لا يعرف هذا، لكنه يحسه.
رابح ظريف